أفغانستان الجديدة- أمل في التنمية والاستقرار بعد سنوات الاحتلال

تبعث أفغانستان الحديثة رسالة أمل مُلهمة، تعزز تصميم أولئك المقاومين الأبطال الذين يناضلون بشراسة من أجل الحرية، وتُرينا بوضوح كيف أن مسيرة التغيير المنشود تبدأ بطرد الاحتلال الغاشم.. كما تمنحنا أيضًا درسًا بليغًا في خطورة القوالب النمطية الزائفة التي تُباع لنا، بهدف إضعاف ثقتنا بأنفسنا وقدراتنا، وتقديم الصديق الوفي في صورة عدو لدود، والطيب النبيل بوجه شرير خبيث.
لقد ذكرتُ في مقالتي السابقة تلك الرحلة الفريدة التي أتيحت لي إلى كابل في فترة اشتداد المقاومة الباسلة في غزة. واليوم، أود أن أروي المزيد ممّا شاهدته في هذا البلد الذي تخلص أخيرًا من احتلال استمر 45 عامًا، تعاقبت عليه دول كبرى ذات نفوذ.
إن معالجة قضية تصنيع المخدرات، والنجاح السريع في القضاء على هذا القطاع المشين، يُعتبر أيضًا من أبرز مظاهر النجاح في التجربة الأفغانية الجديدة بقيادة طالبان.
قد يبدو الأمر مستغربًا للبعض، لكن الموضوعين اللذين يحتلان صدارة أولويات الحكومة الحالية (حكومة طالبان)؛ هما: التنمية الاقتصادية الشاملة، وتوفير مناخ مُشجع يهدف إلى الحد من الهجرة المتزايدة من البلاد. قد يبدو هذا الأمر مدهشًا للغاية إذا ما قورن بالأخبار التي ارتبطت باسم أفغانستان على مر العقود الماضية، عندما كانت اللغة السائدة في هذا البلد هي لغة الاحتلال الوحشي والعنف المستمر والحرب الدائرة وعدم الاستقرار المزمن، ولم يكن من الممكن أن ينشغل أحد بمثل هذه القضايا الهامة، ولكن – سواء صدقت أم لم تصدق – هذا هو الواقع الجديد الذي تشهده البلاد بعد انتهاء الاحتلال قبل عامين ونصف.
أولئك المهاجرون غير الشرعيين أو اللاجئون الذين ينتقلون من بلد إلى آخر بحثًا عن فرص أفضل – ونرى أعدادًا كبيرة منهم في تركيا ودول أخرى – يعطون انطباعًا سلبيًا عن بلادهم التي تعاني من مشاكل جمة. ونظام طالبان، الذي قاوم الاحتلال الأمريكي ببسالة طوال 20 عامًا، يعتبر نجاحه في طرد ذلك الاحتلال نصرًا واضحًا ومباشرًا للإسلام، ولذلك فهم يرون – كما لمست خلال الزيارة – أن المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم هي الحفاظ على كرامة هذا الجهاد المقدس، وصفائه ونزاهته وشرفه الرفيع، وأن يكون أداؤهم على مستوى الراية التي يرفعونها عاليًا، وأكبر اختبار يواجهونه في هذا السياق هو وقف تدفق البشر المستمر من أفغانستان إلى بلدان أخرى.
ولن يتحقق هذا الهدف النبيل إلا من خلال معالجة الأسباب الجذرية التي تدفع الناس إلى الهجرة اليائسة، حيث لا تتوفر فرص عمل كافية، ولا توجد ظروف معيشية ملائمة، كما لم يكن هناك – لفترة طويلة – وضع سياسي مستقر يبعث الأمل والتفاؤل في نفوس المواطنين الأفغان.

مما لا شك فيه أن مشكلة اللجوء والهجرة غير الشرعية من أفغانستان لم تبدأ في العامين أو الثلاثة الأخيرة، أي خلال فترة حكم طالبان. بل على العكس تمامًا، فإن الاحتلالات المتتالية من روسيا وأمريكا، والحروب الأهلية المدمرة التي استمرت 45 عامًا، هي التي أعاقت بشكل كبير تشكيل اقتصاد مستقر ومزدهر في البلاد، وحولتها إلى دولة مُصدرة للاجئين والمهاجرين. واليوم، تحت الإدارة الثانية لطالبان، وللمرة الأولى منذ 45 عامًا، انقلب الوضع رأسًا على عقب، حيث تم تشكيل حكومة مستقرة تسيطر على البلاد بأكملها وتسمح للمرة الأولى بالتفكير الجدي في مشكلة التنمية الاقتصادية المستدامة.
إن معالجة قضية صناعة المخدرات، والنجاح السريع في القضاء على هذا القطاع المشين، يُعتبر أيضًا من أبرز مظاهر النجاح في التجربة الأفغانية الجديدة بقيادة طالبان، فعلى مدى عقود من عدم الاستقرار والفوضى، كانت المخدرات هي المساهم الأكبر في الاقتصاد الأفغاني، حيث يعتمد عليها عدد كبير من المواطنين في معيشتهم اليومية، ولم يسعَ الاحتلال بصورة جادة لمواجهتها والقضاء عليها، بل يمكن القول بكل ثقة إنه كان يستفيد منها بشكل أو بآخر، فقد كان جزء من تمويل الاحتلال يعتمد على هذه الصناعة غير المشروعة، كما أنه كان يستفيد من تزايد نسب الإدمان بين المواطنين، بهدف الحد من المقاومة الشعبية.
عندما طردت طالبان المحتلين من البلاد، أنتجت صور الأشخاص اليائسين – الذين تشبثوا بعجلات وأجنحة طائرات الشحن الأمريكية – انطباعات معقدة ومثيرة للجدل حول رغبة المواطنين الجامحة في الفرار من البلاد بأي ثمن. وكانت الفكرة السائدة في وسائل الإعلام الغربية هي أن طالبان ستحول البلاد إلى مكان غير صالح للعيش على الإطلاق. وتزايدت التوقعات بأن تسعى إدارة طالبان إلى الانتقام من خصومها والتنقيب في سجلات الماضي المظلمة، وهو الأمر الذي سيزيد من وتيرة الهجرة من بلد كان بالفعل ينتج أعدادًا كبيرة من المهاجرين الباحثين عن حياة أفضل.
ولكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا، إذ أعلنت إدارة طالبان عفوًا عامًا شاملاً فور توليها السلطة، مؤكدة أنه لن تتم ملاحقة أي شخص بسبب علاقته بالنظام السابق، ما لم يكن قد انتهك حقوق الإنسان الأساسية. وحتى هذه اللحظة، ما زالوا ملتزمين بهذا الوعد النبيل. وقد ساهم هذا الإجراء بشكل كبير في وقف هذا التسارع الخطير في معدلات الهجرة.
لم يكتفِ المسؤولون بهذا العفو الذي يشمل جميع من هم داخل البلاد، فخلال الأشهر الأخيرة، تسعى حكومة طالبان جاهدة إلى إعادة العديد من الأفغان – الذين هاجروا سابقًا إلى باكستان ودول أخرى – إلى بلادهم الأم. وبهذه الحكمة والرؤية الثاقبة، تواجه طالبان أحد أكبر التحديات التي تواجهها في أفغانستان، حيث تعمل بجد على خلق الظروف المناسبة التي تحفظ مواطنيها داخل البلاد، وتأمين السلام والهدوء الاجتماعي إلى حد كبير.
الخطوة التالية الحاسمة هي تطوير البلاد لتصبح مكانًا أفضل للعيش فيه، بحيث لا يحتاج المواطنون إلى الهجرة والبحث عن فرص أفضل في أماكن أخرى، وذلك من خلال تحقيق شروط التنمية الاقتصادية المستدامة والشاملة.
وَفقًا للوزراء الذين تحدثنا معهم، هناك جهود جادّة ومضنية جارية لتحقيق هذا الهدف السامي. لم تقم إدارة الولايات المتحدة الأمريكية التي دامت 20 عامًا بأي استثمارات حقيقية في البنية التحتية الحيوية، أو في المنشآت الصناعية الهامة، أو في خلق موارد اقتصادية مستدامة للناس. والإدارة الحالية تعمل بجد واجتهاد للقيام بهذه الاستثمارات الضرورية، وتعتمد بشكل خاص على التعاون الاستثماري المثمر مع الدول الإسلامية الشقيقة.
أفغانستان تقدم فرصًا استثمارية واعدة وجذابة للغاية للمستثمرين في مجالات الطاقة المتجددة، وبناء البنية التحتية الحديثة، واستخراج المعادن الثمينة، وتطوير الزراعة المستدامة، وتنمية رأس المال البشري. لديها بالفعل شباب متعلم ومثقف، ومواطنون مجتهدون ومهرة، وسريعو التعلم، ولا يخشون الصعاب والتحديات.
كما أن لديها أراضي واسعة شاسعة ذات جودة عالية تصلح للزراعة وإنتاج المحاصيل المتنوعة. ويمكن تحويل البلاد إلى مركز جذب رئيسي للمستثمرين الدوليين في مجال صناعة النسيج والصناعات الأخرى التي تحتاج إلى العمالة الكثيفة، وذلك من خلال إطلاق حملة ترويجية واسعة النطاق تعرض أفغانستان كدولة الفرص الواعدة والمستقبل المشرق.
وقريبًا قد يأتي مستثمرو تلك الصناعات المتطورة إلى أفغانستان، تمامًا كما يذهبون إلى الصين والهند وبنغلاديش وباكستان وحتى مصر. وسيكون ذلك خطوة هامة نحو تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، وطريقة فعالة للحد من الهجرة المتزايدة من قلب البلاد.
